مذكرات خمسينية صحية

رحلتي مع خسارة الوزن عمرها عمر أكبر أولادي (30سنة). كنت قبلها أتمتع بوزن مثالي جدا (71) يناسب طولي (175). كان مثالياً بجميع المقاييس فيما عدا مخالفته لجدول الأوزان المثالية المشهور والذي لا أراه يسبب إلا يأساً وقنوطا بسبب عدم اعتباره لبنية الجسم ووزن العضلات. عندما ولدت ابني الأول بدأت المأساة حيث زاد وزني في الحمل 18 كيلو بسبب الرغبة الشديدة في تناول الدونت الطازجة صباح كل يوم مع كأس من اللبن كامل الدسم (لم يكن ثمة لبن قليل الدسم آنذاك). كان ذلك شيئاً عجيباً، إذ أني لا أحب السكريات بشكل عام ولا أميل إليها، ولكنه الوحم وأعاجيبه يا سادة. في خلال 15 شهراً تقريباً تمكنت من خسارة عدد مماثل من الكيلوات قبل أن أحمل بابني الثاني، وبعد ولادته بستة أشهر فقط حملت بابنتي الأولى ثم انفرط العقد!! لم يعد عندي الوقت ولا الجهد ولا المزاج لتنظيم وجباتي.

كنت غارقة في تلك الأزمنة في العادات الممعنة في الدمار: الإكثار من الحلاوة الطحينية (مفضلتي) لدر الحليب، الأكل العاطفي، إدمان الجنك فود، الخلود إلى الكسل بسبب صناديق الأعذار المبعثرة في كل مكان في محيطي على الرغم من تمتعي سابقا بجسد رياضي حصلت عليه من مدرستي الخاصة في جدة والتي متعتنا بفناء واسع كنا نمارس فيه صنوف الرياضة ككرة الطائرة وتنس الريشة وكرة السلة. تراكمت الدهون وخاصة دهون البطن (الولادية)، وركبت رأسها وصارت أعْنَد من جحش هرِم ، تقوده لا مبالاة شديدة وجهل بعواقب الأمور.

فلما بلغت الأربعين، بداية السنين الذهبية، بدأت أصحو من غفلتي، وصرت أحاول استرجاع ماضيّ القديم في الرشاقة، وبدأت في تخفيف الوزن والمشي مع المدربة الأمريكية ليزلي سانسون في برنامجها الممتاز Walk at Home والذي كان يتيح لي المشي لمسافات تبلغ 3-5 كلم وأنا في وسط حجرتي عبر أقراص مدمجة كنت أشتريها من موقع أمازون.

ولكن هذه الرغبة في استعادة مجدي القديم لم تكن بقوة كافية تدفعني للاستمرار، فكنت أتوقف وأعود حسب المزاج. الأكل العاطفي بالذات كان يرديني كثيراً . كلما مللت، تضايقت، حزنت، فرحت، ألجأ إلى الطعام.. أي طعام متاح .. آكل منه عدة لقمات دون تفكير إلى أن يذهب ضيقي، ثم أدخل في دوامة: لم فعلت هذا ؟؟ وأظل ألوم نفسي وأحتقرها ، وأزداد يقينا يوماً بعد يوم أني لن أنحف أبداً ..

الوزن يتزايد كل سنة مع تقدم العمر حتى وصلت إلى ١٠٤ كلغم. وفي الثالثة والأربعين أصبت بسرطان الثدي. عندها أخبرني طبيبي بأهمية تخفيف وزني لأن الخلايا الدهنية التي تحت الجلد تفرز هرمون الإستروجين والذي تتغذى عليه خلايا سرطان الثدي .هنا قرع الجرس الأول. كنت في وضع نفسي صعب.. كنت مصابة بالسرطان، لو كنت تفهم جيداً ما يعني ذلك .. كنت أريد أن أنتهي من ذاك الجاثوم الذي يجثم على صدري. ولكن لم أكن أدري كيف أفعل مع التعب الذي أنهكني، والكيماوي الذي رفع وزني إلى 108 كغم، إلا أني في نهاية علاجاتي اشتركت مع إحدى شركات الحمية لمدة 6 أسابيع حتى نزل وزني إلى 96 مجدداً .

عندما انتهت علاجاتي، كان من المفروض أن أبدأ في إنقاص وزني جدياً، إلا أن مشكلة الأكل العاطفي كانت تتحكم فيّ بشكل رهيب. تغيرت حالتي الاجتماعية، ابتُعث أحد أبنائي للخارج، وسافر الثاني للعمل وبقيت مع المراهقين. لا داعي طبعا لإخباركم عما كان يفعل المراهقون لآكل كل ذلك الأكل العاطفي!  أدمنت تويتر وهناك تعرفت على تغريدات الدكتور صالح الأنصاري الملهمة. كان لا يفتأ ولا يكل عن التحدث عن المشي وآثاره السحرية. تواصلت معه، وأهداني نسخًا موقعة من كتابيه، وكانت بداية الإلهام.

اتفقت مع أحد المراهقين على المشي في الممشى يوميا ، ووافق لأنه كان رياضياً. في البداية كنت أشعر بتعب شديد لمجرد مشي 3 ك فقط. ساقاي كانتا تؤلماني يومياً، فلما سألت الدكتور الأنصاري أرشدني إلى تناول البنادول يوميا، وأخبرني أن هذا الألم سيتلاشى خلال شهر. وقد كان . أدمنت المشي يومياً بعد المغرب، وكانت ساعة استرخاء واستجمام وهروب من عبث المراهقين. كنت أرجع بنفسية فرحة، ونزل وزني إلى 92 دون أي تغيير في نظام طعامي المبعثر.

بعد سنة، سافر ابني لإكمال دراسته الجامعية وبقيت مع ابن آخر يكره الحركة كما يكره الثعبان أظن !! توقفت عن المشي، وعاد وزني للارتفاع، فكان يتراوح بين التسعين والثامنة والتسعين ، ولكنه لا ينزل للثمانين كأنه أقسم على ذلك. وعدت نفسي بوعود شتى لو أني رأيت رقم ثمانية في خانة العشرات، أهمها شراء حذاء رياضي جديد غالي الثمن .. كنت أمارس المشي في البيت، فالممشى صار بعيد المنال، والشوارع خطيرة : باعة ذوو نظرات لزجة، مياه قذرةفي الشارع، سائقون متهورون وأرصفة (…). حاولت جهدي،  ولكني كنت أخفق في كل مرة، حتى تكونت عندي قناعة أني سأموت بهذا الوزن، وبدأت أحبك المشاهد في ذهني لمن سيغسلني، كيف سيتورط في الوزن!!

في العام الماضي كُسرت عظمة فخذ أمي بسبب الهشاشة ثم سقطت على الأرض.. اقرأ القصة التي ألهمتني في تدوينتي لم الوسوسة . صدقني ستختصر عليّ وقتاً كبيراً في الكتابة .. عندها قررت أن أبدأ من جديد وأجرب أشياء كنت دائماً أستبعد ملائمتها لي.

مضحك أننا دائماً نتوقع توقعات مستقبلية، ثم نجد أننا خسرنا كثيراً بسبب عدم خوضنا فعليًا في التجربة .حددت أولاً لنفسي 5 أهداف يومية: تناول الزبادي، مشي ربع ساعة على الأقل، كتابة كل لقمة أتناولها في الجورنال، لا للغازيات، لا للنقنقة أثناء النهار. وبدأت بدعاء حار شديد تبرأت فيه إلى الله من حولي وقوتي إلى حوله وقوته.

بدأت في نصف محرم من عام 1437 بوزن 96,4.. خففت أكلي وراقبت كل لقمة تدخل بطني كيفEmbedded ولماذا، وكنت أدونها في دفتر صغير أسميته الجورنال. وبعد أسبوعين أدخلت الأوزان (الأثقال)،  وفي خلال شهر نزلت كيلوين ثم استرجعت أحدهما. كدت أجن! بدأت أشهد أثر النزول في مقاساتي، ولكن الميزان! 

زدت من فترة مشيي في الشهر الثاني حتى وصلت إلى نصف ساعة يوميًا واشتركت مع مدرب شخصي أون لاين بمبلغ لا بأس به. من الشهر الأول رأيت النتائح الواضحة لذلك الاشتراك. وفي نفس الفترة بدأ المهندس رشدي عثمان والمشهور بزبادي ومشي فترة تدريب تجريبية، فاشتركت معه، وكنت كالغريق الذي يتشبث بأي شيء وكل شيء ليصل إلى النجاة. لم يألُ زبادي ومشي جزاه الله خيراً جهداً في تشجيعي وتوجيهي، وكان من أول ما تعلمته منه أن الشعور بالتوتر والإحباط الناجم عن عدم نزول الوزن مثلا يمكنه أن يمنع فعلاً نزول الوزن، لذا فعليّ أن أبحث عن مواطن الإيجابية . قل لي بربك، أين يمكن أن تكون الإيجابية إذا كنتُ عاجزة عن إنقاص وزني رغم كل ما أفعله لأجل ذلك. فأخبرني عدة أمور :

  • طبقا لظروفي المعيشية والعمرية فإن زيادة الوزن أمر متوقع، لذا فإن منع زيادة الوزن في حد ذاته إنجاز جيد .. هممم شيء جميل فعلا . هنا انزاح عن كاهلي حمل عظيم وشعور أعظم بالذنب.
  • في هذا العمر يقل نشاط الأيض، وتقل الكتلة العضلية في الجسم، لذا فإن ممارسة الرياضة تعتبر هدفاً أساسياً وضرورياً لا يمكن التنازل عنه أو النظر إليه على أنه رفاهية وترف. بل هو واجب يومي. (!!!)
  • خسارة نصف كيلو أسبوعيا هو هدف ممتاز (لا تنس أني في آخر الأربعين).

يافرحتي .. بصيص نور أخيرا ً.. إذن فلست خائبة لأني لم أستطع أن أخسر من الوزن كما يخسر كل أولئك الشباب في تويتر. إذن فلست خائبة لأني مهما تمرنت فإن سعراتي المستهلكة لا يمكن أن تزيد عن 450 في حين يستهلكون هم 700-1000 . هذه الراحة النفسية والشعور بنوع من الإنجاز خفف عني التوتر بشكل هائل.. استمريت في الرياضة وحمل الأوزان، قلّ تناولي للأكل العاطفي بشكل واضح وملوموس، وصرت كلما أخبص في “العزائم ” التي أدعى إليها ولا أرفضها أبداً أصوم بعدها قرابة 18 ساعة، وفي اليوم التالي أُكثر من الماء وأقلل النشويات وأزيد من جرعة الرياضة. بدأت قياساتي تختلف وتنكمش وصار كل من يراني يسجل إعجابه إلا الميزان السخيف. وبدت حالة التوتر تعود، إذ كان الميزان في اعتقادي هو الإشارة التي تدلني هل أمشي في الطريق الصحيح أو لا . آه لو كان يعطيني إشارة ولو خافتة تطمئنني .. فمنعني زبادي عن قياس وزني بتاتا إلا كل شهر .. وعادوت النزول واستمريت على ذلك ومع ذلك ، فالثمانين الكريهة كانت تأبى أن تظهر في الميزان ..

فجأة انتبهت إEmbeddedلى أن الميزان لم يعد يهمني، ولم يعد يصيبني الإحباط. انتبهت أني صرت سعيدة بهذا النظام: رياضة وغذاء صحي بشكل عام. قررت أن أستمر لأجل صحتي، لا لأجل الميزان.. لا أريد أن تنكسر عظامي بسبب الهشاشة، وعليّ أن آخذ بالأسباب. اشتريت الحذاء مكافأة لنفسي على إنجازاتها الحقيقة.

وقررت أن تكون الخطوة التالية تحديث مقاسات ملابسي ومقاسات طعامي في ذهني، إذ لازلت أطلب نفس المقاسات القديمة لأستبدلها بعد قياسها في المنزل بمقاس أصغر، وأطلب نفس الكمية القديمة من الطعام والتي اعتدتها لثلاثة عقود مضت، ثم أتورط بسبب إحساسي بالشبع المبكر.  

سافرت في الشهر الماضي أسبوعا، توقفت فيه عن الرياضة واستمتعت بشيء من التخبيص، ولما رجعت أبيت أن أقف على الميزان حتى يمر أسبوع على تخبيصي لعلي أستدرك شيئاً مما فاتني. فلما علوتُه قبل أيام وجدت الرقم الرنان يصدح: 89,2 .

لم أصدق عيناي. نظرت في الميزان جيداً .. فركت عيناي ثم أخذت أقفز فرحا وسعادة ضاربة بوقار عمري عرض الحائط .. أخيراً بدأت الدهون العنيدة باللين. أخيراً تأكدت أني أمشي في الطريق الصحيح بفضل الله .

لا زال أمامي 10 كيلوات لأصل إلى 79.9 وعندها سأتوقف. لا أريد أن أكون عارضة أزياء، ولكني أريد أن أكون بصحة طيبة. امرأة في مثل سني وطولي يكفيها أن تكون بهذا الوزن مع استمرارها على الرياضة والغذاء السليم. ولست مستعجلة في الوقت ذاته. لا أريد أن أحرم نفسي من أطايب الطعام ,كثير منها غير صحي بالتأكيد ولا مانع عندي من تناولها بين الخين والآخر لأن هذا يجب أن يكون نظام حياة، وليست حقبة زمنية ستنتهي.

لم كتبت لكم قصة حياتي؟ لأني أريد أن أثبت أن النصر مع الصبر.

 لأني أريد أن أطمئن أولئك الذين تجاوزوا الأريعين وربما الخمسين والستين أنه لا زال بإمكانهم أن يخسروا أوزانهم الزائدة، فلا يحبطون عندما يرون إنجازات الشباب الفائقة ويشعرون أنهم كالسلاحف المعمرة تمشي في آخر السباق. لسنا في سباق حقيقة، وإنما كلنا نمضي في طريق واحد، والفائز هو الذي يصل بصحة طيبة. ليس المهم من يصل أولا، وإنما الصحة هي المهمة، إذ بها تُقضى جميع المصالح .

مساؤكم سعيد ☺️

8 آراء حول “مذكرات خمسينية صحية

  1. ابحث عن نفسي كتب:

    الله يسعدك
    عندي شيء يسبب الالم لي نفسي احكيه لك لان ارائك حكيمه ومؤسف اني لا استطيع اتخاذ قرار حاسم مهم في حياتي .

    إعجاب

  2. عبده اليماني كتب:

    ماشاء الله تبارك الله ابدعتي بطرحك ونقلتي لنا تجربتك الرائعة
    انتي مثال يحتذى به ومصدر الهام للكثير بارك الله فيك ومتعك بالصحه والعافيه ونفع بك .

    إعجاب

  3. غالية كتب:

    كم انت رائعه كما هي عادتك يا ام خالد من اول ما دلني الله على مدونتك وجدت خيرا كثيرا وتحفيز جعله الله في ميزان حسناتك😍💚

    Liked by 1 person

  4. مروى كتب:

    لست أدري أأشكر مرض السرطان أن أخرج لناهذهالإبداعات أم أشكره لأنه جمعني بكِ , الشكر لله رب العالمين أن وفقني لقراءةكل ما تكتبين بنهم عجيب وللتقارب الغريب بين شخصيتي وشخصيتك مع فارق عدة سنوات.. شكرا لكِ من الأعماق, وكم أتمنى لو تتحفينا بكتاب مماثل لكتاب الحياة الجديدة , بعنوان ” بعد خمسة أعوام من الشفاء ” أدام الله عليكِ نعمة العافية وأدام علينا هذا القلم الفياض وبارك في تلك الأنامل..
    محبتك مروى

    Liked by 1 person

أضف تعليق